الدولة المصرية والمعادلة الصفرية- قمع مستمر وتمثيل شعبي مرفوض

المؤلف: د. خليل العناني08.15.2025
الدولة المصرية والمعادلة الصفرية- قمع مستمر وتمثيل شعبي مرفوض

إن القمع الوحشي الذي تمارسه أجهزة الدولة المصرية ضد معارضيها السياسيين يتجاوز مجرد خلافات سياسية أو أيديولوجية سطحية. ولا يمكن اختزال هذا الأمر في الادعاءات الباطلة التي تروجها الدولة ووسائل الإعلام التابعة لها، من اتهام المعارضين بتهمة "الانتماء إلى جماعة إرهابية تسعى لتقويض أركان الدولة"، وهي التهمة التي أصبحت بمثابة بصمة أو سمة ملازمة لكل إجراء تتخذه الدولة. بل إن هذا القمع هو تجسيد لمعادلة صفرية تستخدمها الدولة في تعاملها مع المجتمع، تقوم على مبدأ "إما نحن أو هم". هذه المعادلة، التي تجسدت بوحشية منذ تدخل الجيش والإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي في يوليو 2013، تمتد جذورها إلى بدايات الحكم العسكري في مصر في الخمسينيات من القرن الماضي، وربما أبعد من ذلك بحوالي 150 عامًا، تحديدًا منذ تولي محمد علي مقاليد السلطة في مصر.

فمنطق الدولة المصرية "الحديثة"، كما أسسها محمد علي، يتعارض جوهريًا مع المجتمع وقواه الفاعلة وممثليه. هذا المنطق يقوم على رفض أي شكل من أشكال التمثيل الشعبي، سواء كان سياسيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا، باعتباره تهديدًا للدولة ذاتها، أو بالأحرى لمصالح من يحكمونها ويهيمنون عليها. لذلك، كانت إحدى المهام الرئيسية لهذه الدولة هي تفكيك أي تكتلات أو تنظيمات أو حركات قد تمثل قطاعات شعبية معينة. ويتحول الأمر إلى حرب ضروس شاملة أمنية واقتصادية واجتماعية إذا تجرأت أي من هذه القوى ودخلت المعترك السياسي.

إن الدولة المصرية تنفر من التمثيل الشعبي، وتعتبره خطرًا وجوديًا يهدد كيانها ومصالح حكامها وحاشيتهم وأتباعهم. وإذا سمحت به، يجب أن يكون ذلك ضمن شروط محددة، وتحت سقف لا يمكن تجاوزه، بحيث يصبح أي تجاوز، حتى غير مقصود، بمثابة إعلان حرب على الدولة، يستدعي ردًا حاسمًا وكسرًا لعظام كل من تسول له نفسه تحدي هذه المعادلة، ليس انتقامًا منه فحسب، بل ليكون عبرة لكل من يفكر في تقليده.

إن ما تغفل عنه الدولة المصرية ومن يديرونها ويسيطرون على مؤسساتها وأجهزتها، هو أن من ثار مرة سيثور ثانية، عاجلاً أم آجلاً، وأن ثورته القادمة لن تقتصر على كسر المعادلة الصفرية، بل قد تطيح بدولة "محمد علي" القائمة على القمع والتهميش.

خلال عهدي السادات ومبارك، انتهجت الدولة آليات واستراتيجيات متنوعة لضمان استمرار هذه المعادلة الصفرية ومنع الخروج عليها، تراوحت بين القمع، الإقصاء، التدجين، والاحتواء. ولعل أبرز مثال على ذلك هو ما حدث مع جماعة الإخوان المسلمين. فالصراع بين الدولة وهذه الجماعة منذ بدايات القرن الماضي لم يكن بالضرورة صراعًا فكريًا أو دينيًا أو أيديولوجيًا، بل كان -ولا يزال- صراعًا على النفوذ الاجتماعي والبشري الذي نجحت الجماعة في بنائه ورعايته وتمثيله بأشكال مختلفة، سواء نقابية أو مهنية أو سياسية، حتى وإن كان هذا التمثيل يتم ضمن السقف الذي حددته الدولة. لذلك، في كل مرة حاولت فيها الجماعة كسر هذه المعادلة، وتجاوز الحدود التي رسمتها الدولة، كانت تُقمع وتُحطم وتُستأصل. وتوقف ذلك على رؤية واستراتيجية كل نظام، ومدى شرعيته وتأييده الشعبي، إن وجد أصلاً.

ومن اللافت للنظر أن دورات القمع والاستئصال التي تتعرض لها الجماعة تتزامن دائمًا مع محاولات الحكام الطامحين -بالمعنى السياسي لا الفقهي- لبناء قاعدة شعبية لأنفسهم، مما يجعل الاصطدام حتميًا مع شرعية التمثيل المجتمعي للجماعة، ولو من شرائح معينة. فمثلاً، كان من الصعب على عبد الناصر ترسيخ شرعيته دون القضاء على جماعة الإخوان. ذلك أن جزءًا أساسيًا من شرعيته كان يقوم على نفي شرعية الجماعة، قبل إزالتها من الوجود، وفقًا لمنطق المعادلة الصفرية، وفي هذه الحالة تحت شعار "إما أنا أو المرشد". ولعل الصراع الحقيقي لم يكن مع الجماعة في حد ذاتها، بل مع فكرة التمثيل المجتمعي والشعبي التي كان يمقتها بعض أعضاء ما كان يُعرف بـ "مجلس قيادة الثورة".

فقد اتخذ عبد الناصر قرارًا في يناير 1953 بإلغاء كافة أشكال الحياة النيابية والتمثيلية، وخاصة الأحزاب السياسية، قبل أن يحظر جماعة الإخوان المسلمين بعد ذلك بأشهر قليلة.

وهو نفس النهج الذي يتبعه النظام الحالي منذ يوليو 2013، ولكن مع فارق جوهري، وهو أن هذا النظام لا يخوض صراعًا وجوديًا مع الجماعة فحسب، بل أيضًا مع كل ما يمت بصلة لثورة يناير، التي يعتبرها تمردًا من المجتمع على الدولة، يجب قمعه ومنع تكراره مهما كلف الأمر. وهذا ما نسمعه في التصريحات الرئاسية المتكررة التي تلقي باللوم على الثورة في جميع مشاكل البلاد. لذا لا تتوانى وسائل الإعلام الرسمية عن تشويهها وتجريم المشاركين فيها، والتحذير من تكرارها. ولعل النظام مُحق في ذلك، فثورة يناير كانت محاولة جريئة لكسر الحلقة المفرغة بين الدولة والمجتمع، حيث سعى المجتمع -من خلال قواه الحية وشرائحه الفاعلة- إلى انتزاع حقه في الوجود والتمثيل من الدولة المصرية.

ولا يمكن فهم المنطق وراء التنكيل والإذلال المتعمد الذي تمارسه الدولة المصرية، بكافة أجهزتها ومؤسساتها وأفرادها، ضد آلاف المعتقلين السياسيين، وخاصة الشباب، إلا في هذا السياق. فالدولة تسعى إلى إخماد وقتل أي فكر جريء يراود الشباب في تكرار الخروج عليها مرة أخرى. بيد أن ما يغيب عن إدراك الدولة المصرية ومن يديرونها ويسيطرون على مؤسساتها وأجهزتها، هو أن من ثار مرة سيثور ثانية، عاجلاً أم آجلاً، وأن ثورته القادمة لن تقتصر على كسر المعادلة الصفرية، بل قد تطيح بدولة "محمد علي" القائمة على القمع والتهميش.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة